الأزمة الاقتصادية بعد الهجرة
أدت
هجرة المسلمين إلى المدينة إلى زيادة الأعباء الاقتصادية، الملقاة على
عاتق الدولة الناشئة، ولم تكتف قريش بخروج النبي والمسلمين من مكة، بل
إنها بدأت في تنفيذ خطوات أخرى عملية للتضييق على المسلمين، منها محاولة
التضييق الاقتصادي على المدينة المنورة بالتأثير على القبائل المحيطة
بالمدينة، وبالاتصال باليهود الذين يعيشون بداخل المدينة المنورة لمنعهم
من التعامل مع المسلمين، وقد استغلت قريش ما لها من نفوذ وما لها من
علاقات مختلفة لتحاصر المسلمين وتضيّق عليهم ولكن- سبحان الله- مع خطورة
هذا الأمر لم يكن له التأثير الكافي على الدولة الإسلامية.
لماذا؟
لأن
الرسول صلى الله عليه وسلم منذ أول يوم نزل المدينة المنورة وهو يحسب لهذا
الأمر حسابه، ويعلم أنه سيواجه مشكلة الحصار الاقتصادي من قريش للمدينة،
من ثَمّ كان صلى الله عليه وسلم يخطط تخطيطًا في غاية الروعة.
ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟
لقد
أدرك صلى الله عليه وسلم من اللحظة الأولى والتي بدأ يخطط فيها لبناء
الأمة الإسلامية أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تبنى إلا على أكتاف
أبنائها.
إن الاقتصاد الإسلامي إذا كان معتمدًا على الآخرين، فإنه
سيصبح اقتصادًا هشًا ضعيفا لا قيمة له، فما بالكم لو كان يعتمد على عدو أو
يعتمد على اليهود، إن المدينة المنورة حال هجرة المسلمين إليها لم تكن
فقيرة فحسب، بل كان اقتصادها إلى درجة كبيرة جدًا في يد اليهود، وكان سوق
المدينة الرئيس هو سوق بني قينقاع ولعله السوق الوحيد في المدينة، وكانت
التجارة في معظمها تتم في داخل هذا السوق، وحتى كبار التجار من الأنصار
كانوا لا يتعاملون إلا في داخل هذا السوق.
الأخطر من التجارة والسوق و
المال هو أن الماء أيضا كان في يد اليهود، وكان أهل المدينة يشترون الماء
من الآبار التي يمتلكها اليهود، أشهر الآبار بئر رومة وهو معروف ومشهور.
ماذا لو حدث اتفاق بين قريش واليهود؟
ماذا لو منع اليهود تجارتهم عن المسلمين؟
ماذا لو منعوا الماء عن المسلمين؟
فهذا
الموقف لا يحسد عليه أحد، ومن هنا خطط الرسول صلى الله عليه وسلم من أول
يوم للخروج من هذه الأزمة بمهارة ودقة وسطّر لنا أصولا أصبحت من الثوابت
في التشريع الإسلامي.
بعض العناوين الهامة للخروج من الأزمة الاقتصادية
أولاًً:
حرْص الرسول صلى الله عليه وسلم على توفير الماء المملوك للدولة
الإسلامية، وذلك لأن الماء سلعة إستراتيجية، ولا يصلح أن تقوم دولة لا
تمتلك الماء، لذلك روى أحمد والنسائي عن الأحنف بن قيس أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: مَنْ يَبْتَاعُ بِئْرَ رُومَةَ وَيَغْفِرُ اللَّهُ
لَهُ.
وهذه البئر كانت مملوكة ليهودي كما قلنا، فابتاعها عثمان بن عفان
رضي الله عنه ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ابتعتها
بكذا وكذا.
فقال صلى الله عليه وسلم: اجْعَلْهَا سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَأَجْرُهَا لَكَ. فقال: اللهم نعم.
وعثمان
بن عفان رضي الله عنه وأرضاه اقتصادي إسلامي كبير، وقد وجّه جهده لشراء ما
ينفع الأمة، بدلًا من التجارة في شيء من الرفاهيات والكماليات، وكان هذا
بتوجيه من الرسول صلى الله عليه وسلم،
حيث وجهه صلى الله عليه وسلم
لشراء السلع الإستراتيجية التي هي في هذا الموقف الماء، وقد تكون السلعة
الإستراتيجية في وقت من الأوقات البترول أو القمح أو القطن أو الطاقة
النووية حسب الظرف.
ونلمح في هذا الموقف شيئًا في غاية الأهمية، وهو
دور التربية الإيمانية في بناء الأمة الإسلامية، ففي هذا الموقف الرسول
صلى الله عليه وسلم لا يملك شيئًا دنيويًا يعوّض به عثمان بن عفان رضي
الله عنه عن الماء الذي اشتراه، ولا يتوقع صلى الله عليه وسلم أن يشتري
المسلمون منه الماء، لأن المسلمين فقراء، ومن ثًمّ فقد حفّزه النبي صلى
الله عليه وسلم بشيءٍ عظيم قال: مَنْ يَبْتَاعُ بِئْرَ رُومَةَ وَيَغْفِرُ
اللَّهُ لَهُ. وَفي رواية: وَلَهْ الْجَنَّةُ.
ولو لم يكن إيمان عثمان
بن عفان يقينيًا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبالجنة والنار لما هان
عليه أن يدفع آلاف الدراهم دون أي عائد دنيوي.
ولم تكن هذه المشكلة تحل
دون تطوعٍ من اقتصادي مسلم غني، يرغب في الدار الآخرة لأن بيت مال
المسلمين لم يكن به مال، لذلك كخطوة أولى قبل بناء دولة لا بد من
الاطمئنان على إيمان وعقيدة الجنود الذين ستُبنى على أكتافهم هذه الدولة.
وبهذه الخطوة الجبّارة أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء لأمته.
ثانياًً: الاستقلالية
عن سوق اليهود، وإنشاء السوق الإسلامي الحر المعتمد على نفسه، فالرسول صلى
الله عليه وسلم علم أن الدولة الإسلامية لا يمكن لها أن تقوم في المدينة
وهي تعتمد على سوق بني قينقاع اليهودي، لذلك أمر الصحابة بأن يبحثوا عن
مكان مناسب في المدينة المنورة ليصبح سوقًا للمسلمين ويتحكم في تجارته
المسلمون، ويُدار على شرع المسلمين وقانون المسلمين، وقد اجتهد الصحابة
رضي الله عنهم في البحث عن مكان مناسبٍ للسوق، وذهبوا هنا وهناك وذهب
الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى أكثر من موضع ولم يعجبه في البداية
المواضع المختارة إلى أن رأى موضعا يصلح من حيث المساحة والموقع فقال صلى
الله عليه وسلم: هَذَا سُوقُكُمْ. وانظر إلى رواية الطبراني وابن ماجه
رحمهم الله عن أبي أسيد رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: بِأَبِي أَنْتَ
وَأُمِّي، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَوْضِعًا لِلسُّوقِ أَفَلَا تَنْظُرُ
إِلَيْهِ؟ قَالَ: بَلَى. فَقَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَعَهُ حَتَّى جَاءَ مَوْقِعَ السُّوقِ، فَلَمَّا رَآهُ أَعْجَبَهُ،
وَرَقَدَهُ بِرِجْلِهِ- أي ضرب موضع السوق برجله- فَقَالَ: نَعَمْ هَذَا
سُوقُكُمْ، فَلَا يُنْتَقَصَنَّ- أَي لا ينتقصن من قيمة هذا السوق ولا من
أرض هذا السوق- وَلَا يُضْرَبَنَّ عَلَيْهِ بِخَرَاجٍ.
أي لا يصح للحاكم أن يضع قيودًا أو ضرائب على من يريد أن يتاجر في هذا السوق، وذلك ليشجع صلى الله عليه وسلم التجارة الإسلامية.
وهذا
الأمر نجد عكسه في كثير من البلاد الإسلامية فنجد القيود على رءوس المال
الوطنية والتسهيلات لرءوس المال الأجنبية، فتنتشر رءوس المال الأجنبية
وأحيانا المعادية في بلاد المسلمين وربما تنتعش التجارة نسبيًا في فترة من
الزمن، لكن بصفةٍ مؤقتة ويصبح السوق معتمدا علي رأس المال الأجنبي،
وبالتالي تصبح قرارات إستراتيجية خطيرة سواءً من ناحية الاقتصاد أو من
ناحية السياسة في يدِ هذه الشركات الأجنبية.
وقد وضع صلى الله عليه
وسلم هذا الأمر في اعتباره من أول يوم أنشأ فيه السوق الإسلامي، وبدأ
المسلمون يهجرون سوق اليهود (بني قينقاع) ويتعاملون مع السوق الإسلامي،
فكانت مقاطعة محمودة وهذه المقاطعة لم تكن سلبية، بل كانت إيجابية بإنشاء
السوق البديل، وإيجابية لإيجاد البضائع الموازية لبضائع اليهود وغيرهم.
ولا
شك أن السوق الإسلامية في أولها كانت ضعيفة عن السوق اليهودية، لكن مرور
الوقت قويت شوكة الاقتصاد الإسلامي وأصبح الاقتصاد الإسلامي معتمدًا على
نفسه،
وكان هذا الاهتمام من الرسول صلى الله عليه وسلم من أول الدعوة
ولم يكن أمرا لحظيا في حياته صلى الله عليه وسلم، بل ظل طيلة عمره صلى
الله عليه وسلم يحفّز الناس على إقامة اقتصاد إسلامي.
وحفز صلى الله
عليه وسلم على التجارة وعلى الزراعة وعلى الصناعة وعلى أي عمل مهما كان
بسيطا وربط صلى الله عليه وسلم كل ذلك بالأجر والثواب عند الله تعالى، كما
ربطه أيضًا بعزة المسلم والأمة في الدنيا، وأتبع كل ذلك بفيضٍ هائل من
التشريعات والقوانين التي تكفل دقة وسهولة التعامل الاقتصادي، وتحفظ
للجميع حقوقهم وتعرّفهم بما لهم وبما عليهم.
ليس هذا فحسب بل
علّم صلى الله عليه وسلم الشعب أن الفساد بكل صوره حرام وحرّم الرشوة
والسرقة والاختلاس والإسراف والتهرب من الزكاة، وبهذا حفظ للدولة مالها
وحقوقها وللشعب ماله وحقّه وظهرت البركة في المال القليل ومع أن المسلمين
كانوا في البداية فقراء لكن زاد المال وتحسّن الاقتصاد وخرج المسلمون من
أزمتهم بنجاح بفضل الله عز وجل وبفضل التشريع الذي لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى
آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ]{الأعراف:96}. وهذه البركات رأيناها فعلًا في المدينة المنورة.
فهذه
النظرة الاقتصادية الثاقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فوّتت على قريش
فرصة محاربة المسلمين اقتصاديا، وفوتت عليهم أيضًا التحالفات التي كان
يعقدونها مع اليهود وغيرهم، وخرج المسلمون فعلا من عنق الزجاجة، وباتوا
يعتمدون على أنفسهم في حياتهم ومن لا يملك قوته لا يملك رأيه.
ومع كل
هذه المحاولات من قِبل قريش والتي تبوء بالفشل لاستئصال شأفة المسلمين، لم
تكتفِ قريشٌ بذلك، بل استمرّت في المحاولة والكيد والتدبير،
[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]
{الأنفال:30}.
وشرع القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم لحل هذه الأزمة بطرق عديدة، وأساليب متنوعة،
· فكان نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار،
· وبناء الصفة التابعة للمسجد النبوي لاستيعاب أكبر عدد ممكن من فقراء المهاجرين،
·
إن المنهج الرباني عالج المشكلة الاقتصادية عن طريق القصص القرآني، (مثل
سورة يوسف وعرض قصته وعلاجه للمشكلة الاقتصادية بمصر)، لكي يتعظ الناس،
ويعتبرون بمن مضى من الأقوام، ولم يترك الجانب التشريعي التعبدي، الذي له
أثر في البناء التنظيمي التربوي، فقد كان المولى عز وجل يرعى هذه الأمة،
وينقل خطاها لكي تكون مؤهلة لحمل الأمانة وتبليغ الرسالة ولا فرق في وسط
هذه الدولة بين الأمور الصغيرة والأمور الكبيرة، لأنها كلها تعمل لرفع
بنائها، ووقوفها شامخة أمام الأعاصير التي تحتمل مواجهتها.ومن هذه الشعائر
التعبدية التي فرضت في السنتين الأوليين من الأخوة، الزكاة، وزكاة الفطر،
والصيام ونلاحظ سنة التدرج في بناء المجتمع المسلم ومراعاته لواقع الناس،
والانتقال بهم نحو الأفضل دون اعتساف أو تعجيل، بل كل شيء في وقته.
_________________
يا نفس لله توبي واستغفري من ذنوبي فقد بدت شمس عامه تميل نحو الغروب
قال على بن أبى طالب رضي الله عنه :
(
ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحد منا منون فكونوا من
أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا .. فإن اليوم عمل بلا حساب ،
وغداَ حساب بلا عمل )
http://www.islamcvoice.com/flash/flash/Ummat-Mohammed.swf